الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقرأ الجمهور {المعذرون} بالتشديد ففيه وجهان:أحدهما: أن يكون أصله المعتذرون فأدغمت التاء في الذال، وهم: الذين لهم عذر، ومنه قول لبيد:
فالمعذرون على هذا: هم المحقون في اعتذارهم.وقد روي هذا عن الفراء، والزجاج، وابن الأنباري، وقيل: هو من عذّر، وهو الذي يعتذر ولا عذر له، يقال عذر في الأمر: إذا قصر واعتذر بما ليس بعذر، ذكره الجوهري وصاحب الكشاف؛ فالمعذرون على هذا: هم المبطلون، لأنهم اعتذروا بأعذار باطلة لا أصل لها.وروي عن الأخفش، والفراء، وأبي حاتم، وأبي عبيد، أنه يجوز كسر العين لالتقاء الساكنين وضمها للاتباع.والمعنى: أنه جاء هؤلاء من الأعراب بما جاءوا به من الأعذار بحق أو بباطل على كلا التفسيرين؛ لأجل أن يأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتخلف عن الغزو، وطائفة أخرى لم يعتذروا، بل قعدوا عن الغزو لغير عذر، وهم منافقو الأعراب الذين كذبوا الله ورسوله، ولم يؤمنوا ولا صدّقوا، ثم توعدهم الله سبحانه، فقال: {سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ} أي: من الأعراب، وهم الذين اعتذروا بالأعذار الباطلة، والذين لم يعتذروا، بل كذبوا بالله ورسوله {عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: كثير الألم، فيصدق على عذاب الدنيا، وعذاب الآخرة.وقد أخرج ابن المنذر، عن ابن عباس، في قوله: {وَجَاء المعذرون مِنَ الأعراب} أي: أهل العذر منهم.وروى ابن أبي حاتم، عنه، نحو ذلك.وأخرج ابن الأنباري في كتاب (الأضداد) عنه أيضًا أنه كان يقول: لعن الله المعذرين ويقرأ بالتشديد كأن الأمر عنده أن المعذر بالتشديد: هو المظهر للعذر اعتلالًا من غير حقيقة.وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن إسحاق، في قوله: {وَجَاء المعذرون مِنَ الأعراب} قال: ذكر لي أنهم نفر من بني غفار، جاءوا فاعتذروا، منهم خفاف بن إيماء؛ وقيل: لهم رهط عامر بن الطفيل، قالوا: إن غزونا معك أغارت أعراب طيئ على أهالينا، ومواشينا. اهـ. .قال ابن عاشور: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} عُطِفت جملة: {وَجَاءَ المعذرون مِنَ الأعراب لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ لَّيْسَ} على جملة {استأذنك أولوا الطول منهم} [التوبة: 86]، وما بينهما اعتراض، فالمراد بالمعذّرين فريق من المؤمنين الصادقين من الأعراب، كما تدلّ عليه المقابلة بقوله: {وقعد الذين كذبوا الله ورسوله}.وعلى هذا المعنى فسَّر ابن عبّاس، ومجاهد، وكثير.وجعلوا من هؤلاء غفارًا، وخالفهم قتادة فجعلهم المعتذرين كَذِبًا، وهم بَنو عامر رهطُ عامرٍ بن الطُفيل، قالوا للنبيء صلى الله عليه وسلم إن خرجْنا معك أغارت أعراب طيء على بيوتنا.ومن المعذّرين الكاذبين أسَد، وغَطَفان.وعلى الوجهين في التفسير يختلف التقدير في قوله: {المعذورون} فإن كانوا المحقين في العذر فتقدير {المعذرون} أنّ أصله المعتذرون، من اعتذر أدغمت التاء في الذال لتقارب المخرجين لقصد التخفيف، كما أدغمت التاء في الصاد في قوله: {وهم يخصمون} [يس: 49]، أي يختصمون.وإن كانوا الكاذبين في عذرهم فتقدير المعذرون: أنّه اسم فاعل من عَذَّر بمعنى تكلّف العذر فعن ابن عباس: لعن الله المعذرين.قال الأزهري: ذهب إلى أنّهم الذين يعتذرون بلا عُذر فكأن الأمر عنده أنّ المعذّر بالتشديد هو المظهر للعذر اعتلالًا وهو لا عُذر له. اهـ.وقال شارح ديوان النابغة عند قول النابغة:أي لاَ يجد عُذرًا غير التوديع.ويجوز أن يكون اختيار صيغة المعذّرين من لطائف القرآن لتشمل الذين صدقوا في العذر والذين كذبوا فيه.والاعتذار افتعال من باب ما استعمل فيه مادة الافتعال للتكلّف في الفعل والتصرّف مثل الاكتساب والاختلاق.وليس لهذا المزيد فعل مجرّد بمعناه وإنّما المجرد هو عَذَر بمعنى قبل العذر.والعذر البيّنة والحالة التي يتنصل المحتج بها من تبعة أو مَلام عند من يعتذر إليه.وقرأ يعقوب {المعذِرون} بسكون العين وتخفيف الذال، من أعذر إذا بالغ في الاعتذار.والأعراب اسم جمع يقال في الواحد: أعرابي بياء النسب نسبة إلى اسم الجمع كما يقال مَجوسي لواحد المجوس.وصيغة الأعراب من صيغ الجموع ولكنّه لم يكن جمعًا لأنّه لا واحد له من لفظ جمعه فلذلك جعل اسمَ جمع.وهم سكان البادية.وأمّا قوله: {وقعد الذين كذبوا الله ورسوله} فهم الذين أعلنوا بالعصيان في أمر الخروج إلى الغزو من الأعراب أيضًا كما يُنبئ عنه السياق، أي قعدوا دون اعتذار.فالقعود هو عدم الخروج إلى الغزو.وعلم أنّ المراد القعود دون اعتذار من مقابلته بقوله: {وجاء المعذرون من الأعراب}.وجملة: {وقعد الذين كذبوا الله ورسوله} عطف على جملة: {وجاء المعذرون من الأعراب} وهذا فريق آخر من الأعراب خليط من مسلمين ومنافقين {كذبوا} بالتخفيف، أي كانوا كاذبين، والمراد أنّهم كذبوا في الإيمان الذي أظهروه من قبلُ، ويحتمل أنّهم كذبوا في وعدهم النصر ثم قعدوا دون اعتذار بحيث لم يكن تخلّفهم مترقّبًا لأنّ الذين اعتذروا قد علم النبي عليه الصلاة والسلام أنّهم غير خارجين معه بخلاف الآخرين فكانوا محسوبين في جملة الجيش.وتخلّفُهم أشدّ إضرار لأنّه قد يَفُلّ من حِدّة كثير من الغزاة.وجملة: {سيصيب الذين كفروا} مستأنفة لابتداءِ وعيد.وضمير {منهم} يعود إلى المذكورين فهو شامل للذين كذبوا الله ورسوله ولمن كان عذره ناشئًا عن نفاق وكذب.وتنكير عذاب للتهويل والمراد به عذاب جهنّم. اهـ. .قال الشعراوي: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}والحديث هنا المنافقين الذين كانوا يعيشون حول المدينة وكانوا يُسمَّون الأعراب، وقد تحدثت الآيات السابقة عن منافقي المدينة الذين جاء فيهم قول الحق: {وَمِنْ أَهْلِ المدينة مَرَدُواْ عَلَى النفاق...} [التوبة: 101].وهنا يأتي الحديث عن المنافقين الذين كانوا يسكنون في البوادي التي حول المدينة وهم الأعراب.والحق سبحانه وتعالى يقول: {المعذرون}، وهناك {مُعْذِرون} و{معتذرون}، والمعذِّرون هم المعتذرون؛ فالمعتذر جمعه معتذرون بفتحة فوق التاء، لكن إذا وُضعَتْ الفتحة فوق العين فالحرف الذي بعدها يُسكّن، وعندما يُسكّن ما بعد العين، فهذا يعني أن هناك افتعالًا.إذن: فالمعذّرون أو المعتذرون هم الذين يريدون أن يتخلفوا عن القتال بأعذار مفتعلة، وهم أرادوا القعود والسكون ولم يتحركوا للقتال، وقد فعلوا ذلك دون عذر حقيقي. ويقال: {المعذرون}، والمُعَذّر، وأعذره أي: أذهب عذره، مثل: أعجم الكتاب أي: أذهب عُجْمته.ويقول الحق سبحانه وتعالى: {وَجَاءَ المعذرون مِنَ الأعراب لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ} لقد كذبوا الرسول في الإيمان نفسه؛ لأنهم لم يكلفوا أنفسهم حتى مجرد الاعتذار وتخلفوا، ولو كانوا قد صدقوا في الإيمان لما تقاعسوا عن القتال، أولا استأذنوا رسول الله في القعود.ثم يقول الحق: {سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} والكفر- كما نعلم- هو ستر الإيمان. والمنافقون من الإعراب أظهروا الإيمان وكانت قلوبهم تمتلئ بالكفر. ويقول الحق سبحانه وتعالى: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ...} [الحجرات: 14] أي أنهم يؤدون أمور الإسلام الظاهرية بينما قلوبهم لم يدخلها الإيمان.ويعرفنا الحق سبحانه بالجزاء الذي ينتظر هؤلاء المتخلفين من الأعراب فيقول: {سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وعرفنا من قبل أن وصف العذاب في القرآن إما أن يكون أليمًا، وإما أن يكون مهينًا، وإما أن يكون عظيمًا، وإما أن يكون مقيمًا. اهـ..التفسير المأثور: قال السيوطي:{وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)}أخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {وجاء المعذرون من الأعراب} يعني أهل العذر منهم ليؤذن لهم.وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وجاء المعذرون من الأعراب} قال: هم أهل الأعذار، وكان يقرؤها {وجاء المعذرون} خفيفة.وأخرج ابن الأنباري في كتاب الأضداد عن ابن عباس. أنه كان يقرأ {وجاء المعذرون من الأعراب} ويقول: لعن الله المعذرين.وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: من قرأها {وجاء المعذرون من الأعراب} خفيفة قال: بنو مقرن، ومن قرأها {وجاء المعذرون} قال: اعتذروا بشيء ليس لهم عذر بحق.وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن. أنه كان يقرأ {وجاء المعذرون} قال: اعتذروا بشيء ليس بحق.وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن إسحق في قوله: {وجاء المعذرون من الأعراب} قال: ذكر لي أنهم نفر من بني غفار، جاؤوا فاعتذروا، منهم خفاف بن إيماء من خرصة. اهـ..فوائد لغوية وإعرابية: قال السمين:{وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ}قوله تعالى: {المعذرون}: قرئ بوجوهٍ كثيرة، فمنها قراءة الجمهور: فَتْحُ العين وتشديدُ الذال. وهذه القراءة تحتمل وجهين: أن يكون وزنه فَعَّل مضعّفًا، ومعنى التضعيف فيه التكلف، والمعنى: أنه تَوَهَّم أن له عُذْرًا، ولا عُذْرَ له. والثاني: أن يكون وزنه افتعل والأصل: اعتذرَ فأُدْغمت التاءُ في الذال بأنْ قُلبت تاءُ الافتعال ذالًا، ونُقِلت حركتها إلى الساكن قبلها وهو العين، ويدلُّ على هذا قراءةُ سعيد بن جبير {المعتذرون} على الأصل. وإليه ذهب الأخفش والفراء وأبو عبيدة وأبو حاتم والزجاج.وقرأ زيدٌ بن علي والضحاك والأعرج وأبو صالح وعيسى بن هلال وهي قراءةُ ابنِ عباس أيضًا ويعقوب والكسائي {المُعْذِرون} بسكون العين وكسرِ الذال مخففةً مِنْ أَعْذَر يُعْذِر كأكرم يكرم.وقرأ مسلمة {المُعَّذَّرون} بتشديد العين والذال مِنْ تعذَّر بمعنى اعتذر.قال أبو حاتم: أراد المتعذرون، والتاء لا تدغم في العين لبُعْد المخارج، وهي غلطٌ منه أو عليه.قوله: {لِيُؤْذَنَ لَهُمْ} متعلقٌ بـ {جاء} وحُذِفَ الفاعلُ وأُقيم الجارُّ مُقَامه للعلمِ به، أي: ليأذن لهم الرسول.وقرأ الجمهور {كَذَبوا} بالتخفيف، أي: كذبوا في إيمانهم.وقرأ الحسن في المشهور عنه وأُبَيٌّ وإسماعيل {كذَّبوا} بالتشديد، أي: لم يُصَدِّقُوا ما جاء به الرسول عن ربه ولا امتثلوا أمره. اهـ..من لطائف وفوائد المفسرين: من لطائف القشيري في الآية:قال عليه الرحمة:{وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)}وهم أصحاب الأعذار- في قول أهل التفسير- طلبوا الإذنَ في التأخرِ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فسقط عنهم اللَّوْمُ.أما الذين تأخروا بغير عُذْرٍ فقد توجَّه عليهم اللوم، وهو لهم في المستقبل الوعيد. اهـ.
|